فصل: المقصد الثاني في كيفية استعمال الأمثال في الكتابة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.النوع الحادي عشر: الإكثار من حفظ الأمثال:

وفيه مقصدان:

.المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك:

اعلم أن الكاتب يحتاج إلى النظر في كتب الأمثال الواردة عن العرب نثراً ونظماً والنظر في الكتب المصنفة في ذلك: كأمثال الميداني، والمفضل ابن سلمة الضبي، وحمزة الأصبهاني، وغيرهم. وكذلك أمثال المولدين الواردة في أشعارهم: كالأمثال الواردة في شعر جرير، والفرزدق ونحوهما، إلى غير ذلك من الأمثال الواردة نثراً ونظماً، والنظر في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم: كأبي العتاهية، وأبي تمام، والمتنبي؛ فحكم ما ورد من الأمثال في شعر المولدين والمحدثين حكم أمثال العرب الشعرية؛ أما في شعر المولدين فلجريهم على أسلوب العرب، وركوب جادتهم؛ وأما المحدثين فللطافة مأخذهم، واستطراف ما يأتون به مما يجري مجرى النثر والنظم: من الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوان عن العرب وغيرهم؛ فيستشهد به في موضعه، ويورد في مكانه عارفاً بأصل ذلك وما بني عليه، وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عرفت، وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم؛ وهذه الألفاظ الواردة في المثل دالة عليها، معبرة عن المراد بها، بأخصر لفظ وأوجزه، ولولا تلك المقمات المعلومة، والأسباب المعروفة، لما فيهم من هذه الألفاظ القلائل تلك الوقائع المطولات؛ وأما الأمثال الواردة نثراً، فإنها كلمات مختصرة، تورد للدلالة على أمور كلية مبسوطة، كما تقدمت الإشارة إليه، وليس في كلامهم أوجز منها. ولما كانت الأمثال كالرموز والإشارة التي يلوح بها على المعاني تلويحاً، صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصاراً. وحيث كانت بهذه المكانة لا ينبغي الإخلال بمعرفتها، قال صاحب العقد: والأمثال هي وشي الكلام، وجوهر اللفظ، وحلي المعاني، والتي تخيرتها العرب، وقمتها العجم، ونطق بها في كل زمان على كل لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء كسيرها، ولا عم عمومها، حتى قالوا: أسير من مثل، قال الشاعر:
ما أنت إلا مثل سائر ** يعرفه الجاهل والخابر

وقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه فقال: {ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء}، وقال تعالى: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} الآية وقال {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل} الآية، وقال {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة} الآية، وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس ومما يعقلها إلا العالمون} إلى غير ذلك من آي القرآن.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال فقال: «ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبي الصراط أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول ادخلوا الصراط ولا تعرجوا: فالصراط الإسلام، والستور حدود الله، والأبواب محارم الله، والداعي القرآن» إلى غير ذلك من الأمثال التي ضربها صلى الله عليه وسلم. ومحل الكلام على أمثال القرآن وأمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقدم من الكلام على القرآن الكريم والأخبار.
ثم هي على ضربين: قريب الفهم بظهور معناه، وكثرة دورانه بين الناس، وبعيد الفهم لخفائه، وقلة دورانه بين الناس. فالقريب من الفهم الكثير الدوران على الألسنة مثل قولهم: عند الصباح يحمد القوم السرى، وهو مثل يضرب للترغيب في السير في الليل، والحث عليه؛ وأول من أرسله مثلاً خالد بن الوليد رضي الله عنه، قاله في صبح ليلة قطع فيها مفازة كانت في طريقه من العراق إلى الشام؛ وقولهم: ساء سمعاً فأساء إجابة. وأول من قال ذلك سهيل بن عمرو وكان تزوج صفية بنت أبي جهل فولدت له ابنه أنساً، فرآه الأخنس بن شريق الثقفي معه فقال من هذا؟ فقال سهيل ابني. فقال الأخنس حياك الله يا بني! أين أمك؟ فقال: لا والله ما أمي ثم، انطلقت إلى بيت أم حنظلة تطحن دقيقاً، فقال أبوه ساء سمعاً فأساء إجابة، فلما رجعا قال أبوه فضحني ابنك اليوم قال كذا وكذا، فقالت إنما ابني صبي وأنت لا تحبه. فقال: أشبه امرؤ بعض بزه، فأرسلها مثلاً. والبعيد من الفهم، مثل قولهم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر. وهو مثل يضرب لمن ينكر الأمر الظاهر عناداً. والأصل في ذلك كما ذكره المفضل بن سلمة الضبي أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكماً، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون علي، فقال الحكم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، فجرت مثلاً. ومن المعلوم أن قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به، والأسباب التي قيل من أجلها، لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل، بل ما كان يفهم من هذا القول معنى يفيد لأن البغي هو الظلم، والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحداً، فكان يصير معنى المثل: إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر. وهو كلام مختل المعنى ليس بمستقيم.
وقد أكثر الناس في تصنيف كتب الأمثال، فمن ذلك الأمثال لأبي عبيد، وهو مرتب على ترتيب الوقائع التي تقع فيها الأمثال. ومن ذلك أمثال الميداني، وهي مرتبة على حروف المعجم وفي آخرها جملة من أيام حروب العرب، إلى غير ذلك من كتب الأمثال المصنفة في هذا الباب: كأمثال الضبي، والقمي، وغيرها.
وأما الأمثال الواردة نظماً، فهي كلمات استحسنت في الشعر، وطابقت وقائع عامة جارية بني الناس، فتداولها الناس، وأجروها مجرى الأمثال النثرية. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتمثل بقول طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وهو نصف بيت مجموعه:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ويروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرجه عن الوزن، ويحيله عن طريق الشعر، فكان يقول: «وياتيك من لم تزود بالأخبار» فراراً من قول الشعر المنزه عنه مقامه العي، وشرفه الرفيع، لكن ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل».

والمحرم عليه صلى الله عليه وسلم، إنما هو نظم الشعر دون إنشاده وسماعه. وقد بسطت القول على ذلك في كتابي المسمى بالغيوث الهوامع في شرح جامع المختصرات ومختصر الجوامع. في الفقه فراجعه هناك؛ ويروى أن عمر رضي الله عنه تمثل بقول النابغة:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب

ثم قال: لمن هذا؟ فقيل له للنابغة، فقال: ذاك أشعر شعرائكم؛ والمثل السائر في قوله: أي الرجال المهذب؛ وأمثال ذلك مما تمثل به الصحابة رضوان الله عليهم كثير، ولذلك وقع في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم ما يستظرف ويستحلى كقول القاضي الأرجاني:
تأمل منه تحت الصدغ خالاً ** لتعلم كم خبايا في الزوايا

يشير بذلك إلى المثل الجاري على ألسنة الناس في قولهم: في الزوايا خبايا وهو من الأمثلة المستفيضة على ألسنة العامة الشائعة بينهم، وقول ابن عبد ربه:
قالوا شبابك قد ولى فقلت لهم ** هل من جديد على كر الجديدين؟

صل من هويت وإن أبدي معاتبة ** فأطيب العيش وصل بين إلفين!

واقطع حبائل خدن لا تلائمه ** فربما ضاقت الدنيا بإثنين

وقول الآخر:
وعاد من أهواه بعد القلى ** شقيق روح بين جسمين

وأصبح الداخل ما بيننا ** كساقط بين فراشين

قد ألبس البغضاء من ذا وذا ** لا يصلح الغمد لسيفين

ما بال من ليست له حاجة ** يكون أنفاً بين عينين؟

قال الأصمعي: ولم أجد في شعر شاعر بيتاً أوله مثل وآخره مثل، إلا ثلاثة أبيات: بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ** لا يذهب العرف بين الله والناس

وبيتا امرئ القيس:
وأفلتهن علباء جريضاً ** ولو أدركنه صفر الوطاب

وقاهم جدهم ببني أبيهم ** وبالأشقين ما كان العقاب

قال صاحب العقد: ومثل هذا كثير في القديم والحديث، ولا أدري كيف أغفل القديم منه الأصمعي، ومنه:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً

البيت المتقدم؟ وهو من أشرف الأبيات وأعظمها باباً.
وأما الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوانات، فكما روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، حين رأى خلاف أصحابه وتخاذلهم، تمثل بقولهم: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض، يعني إنما خذلت يوم خذل عثمان؛ وحكاية هذا المثل أنهم قالوا: اصطحب أسد، وثور أحمر، وثور أبيض، وثور أسود في أجمة؛ فقال الأسد للأحمر والأسود: هذا الأبيض يفضحنا بلونه، ويطمع فينا من يقصدنا! فلو تركتماني آكله، أمنا فضيحة لونه؛ فأذنا له في ذلك فأكله؛ ثم قال للأحمر: هذا الأسود يخالف لوني ولونك ولو بقيت أنا وأنت، ظنك من يراك أسداً مثلي فدعني آكله، فسكت عنه فأكله؛ ثم قال للثور الأحمر: لم يبق إلا أنا وأنت، وأريد أن آكلك! فقال: إن كنت فاعلاً ولا بد، فدعني أصعد تلك الهضبة، وأصيح ثلاثة أصوات، فقال: افعل ما تريد، فصعد وصاح ثلاثة أصوات: ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض فجرت مثلاً.
ويحكى أن عبد الملك بن مروان حج وقدم المدينة، فقال على المنبر: يا أهل المدينة إنكم قتل عثمان بين أظهركم فنن لا نحبكم! وأرسلنا مسلمة ابن عقبة فقتلكم في وقعة الحرة، فأنتم لا تحبوننا، فمثلنا ومثلكم كما قال النابغة:
كما لقيت ذات الصفا من حليفها ** وكانت تريه المال غبا وظاهره

فلما رأى أن قد تثمر ماله ** وأثل موجوداً وسد مفاقره

أكب على فأس يحد غرابها ** مذكرة من المعأول باتره

فلما وقاها الله ضربة فأسه ** ولله عين لا تغمض ناظره

فقال تعالي نجعل الله بيننا ** على ما لنا أو تنجزى لي آخره

فقالت يمين الله أفعل إنني ** رأيتك سخرياً يمينك فاجره

أبى لي قبر لا يزال مقابلي ** وضربة فأس فوق رأسي فاقره

وهذه الحكاية مشهورة في الموضوعات على ألسن الحيوان، وهي أن أخوين هبطا بغنمهما وادياً يرعيان فيه، فخرجت حية من تحت الصفا وفي فمها دينار فألقته إليهما وأقامت كذلك أياماً، فقال أحدهما لا بد من قتل هذه الحية وأخذ هذا الكنز! فنهاه أخوه فلم يقبل، فخرجت فضربها بفأس في يده، فشجها وشدت عليه فقتله، فدفنه أخوه مقابلها؛ فلما خرجت قال لها لك أن نتعاهد على المودة وعدم الأذية، وتعطيني ذلك الدينار كل يوم؟ فقالت: لا! قال ولم؟ قالت لأنك كلما نظرت إلى قبر أخيك لا تصفو لي، وكلما ذكرت الشجة التي في رأس لا أصفو لك.

.المقصد الثاني في كيفية استعمال الأمثال في الكتابة:

فإذا أكثر صاحب هذه الصناعة من حفظ الأمثال السائغ استعمالها، انقادت إليه معانيها، وسيقت إليه ألفاظها، في وقت الاحتياج إلى نظائرها من الوقائع والأحوال، فأودعها في مكانها، واستشهد بها في موضعها، والطريق في استعمالها في النثر، كما في حل الأشعار واستعمالها؛ إلا أن الأمثال لا يجوز تبديل ألفاظها، ولا تغيير أوضاعها: لأنها بذلك قد عرفت واشتهرت.
فما استعمله أهل الصناعة من الأمثال المنثورة وأوردوه في كلامهم قول المقر الشهابي ابن فضل الله في التعريف في وصية أمير مكة المعظمة، ولأنه أحق بني الزهراء بما أبقته له آباؤه، وألقته إليه من حديث قصي جده الأقصى أبناؤه؛ وهو أجدر من طهر هذا المسجد من أشياء تنزه أن يلحق به فحش عابها، وشنعاء هو يعرف كيف يتتبعها وأهل مكة أخبر بشعابها، فاستعمل المثل السائر في قوله وأهل مكة أخبر بشعابها؛ وقد وقع هذا المثل في كلامه أحسن موقع، وجاء على أجمل نظام: لأنه قد أتى به في مكانه اللائق به، ومحله المخصوص بوصفه؛ وقد نقله الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله فاستعمله في غير هذا المعنى، فجاء منحطاً عن هذه الدرجة، وقاصراً عن رتبتها، فقال في وصية خطيب: ووصايا هذه الرتبة متشعبة، وهو كأهل مكة أخبر بشعابها، وأحوالها مترتبة، وهو على كل حال أدرب وأدرى بها؛ إلا أنه قد ظرف بذكر الجناس الاشتقاقي في قوله متشعبة مع قوله بشعابها.
ومن ذلك قول الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في خطبة تقليد بفتوة عن ملك: ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي نور شريعته جلي، وجاه شفاعته ملي، وبسيفه وبه جاء النصر والشرف من انتمائنا إليه، فلا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وهذا على ما هو شائع على الألسنة، وأن ذلك قيل في يوم ضرب علي رضي الله عنه كافراً اسمه مرحب، فشق البيضة على رأسه نصفين، وتمادى السيف فيه وفي جواده فشقهما كذلك وخلص السف بينهما فغاص في الأرض شبرين؛ إلا أن المعروف عند المحدثين وأصحاب السير أن ذا الفقار اسم سيف للنبي صلى الله عليه وسلم، اصطفاه من خيبر لنفسه حين اصطفى صفية بنت حيى بن أخطب رضي الله عنها، ولعله صلى الله عليه وسلم، أعطاه علياً رضي الله عنه بعد ذلك.
ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان القلم، وهو: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، وكريمها المبجل، وعالمها المهذب فالقرينة الأولى فيها مثلان، وأول من قالهما الحباب بن المنذر الأنصاري يوم السقيفة، حين اجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة، يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، وأرادوا تأميره فذهب إليهم أبو بكر وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وقال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، إلى أن كان من كلامه هذان المثلان. والجذيل تصغير حذل، واحد الأجذال؛ وهي أصول الشجر العظام؛ وكانت العرب إذا جربت الإبل نصبت لها جذلاً في باطن الوادي تحتك فيه، فلذلك قال جذيلها المحكك، أراد أنه يستشفى برأيه، كما تستشفي الإبل بالحك في ذلك الجذل؛ والعذق بفتح العين النخلة بحملها؛ وكان من عادتهم أن النخلة الكريمة يبنى ولها بناء يمنعها من السقوط؛ فذلك هو الترجيب؛ أراد أنه كريم في قومه عزيز عليهم. وما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم أيضاً على لسان السيف وهو: فالشمس من شعاعي في خجل، والليل من ضوئي في وجل؛ وما أسرعت في طلب ثأر إلا قيل فات ما ذبح، وسبق السيف العذل. ففي القرينة الأخيرة مثلان أحدهما: فات ما ذبح وهو منثل يضرب لمن طلب الشيء بعد فواته، وأصله أن بعض الملوك رأى مع أعرابي بازياً، فأعجبه فأرسل في طلبه قاصداً، فأتى الأعرابي ولم يكن عنده ما يضيفه به، فذبح البازي وطبخه وقدمه إليه، غير عالم بقصده، فلما فرغ من أكله ذكر للأعرابي أمر البازي وما كان من طلب الملك له، فقال فات ما ذبح، إنك أتيتني ولم يكن عندي ما أضيفك به، فذبحت البازي وطبخته، وهو الذي قدمته إليك. والمثل الثاني: سبق السيف العزل وهو مثل لمن يلوم على فعل شيء بعد وقوعه وفوات أمره.
ومما حل من الأمثال الواردة نظماً، واستعمل في النثر، قول القاضي شهاب الدين بن فضل الله في التعريف في وصية أمير مكة المعظمة أيضاً في الوصية على وفود الحجيج: وكل هؤلاء إنما يأتون في ذمام الله بيته الذي من دخله كان آمناً، وإلى محل ابن بنت نبيه الذي يلزمه من طريق بر الضيف ما أخذ لهم، وإن لم يكن ضامناً؛ فليأخذ بمن أطاع من عصى، وليردع كل مفسد ولا سيما العبيد، فإن العبد لا يردعه إلا العصا. فقوله: فإن العبد لا يردعه إلا العصا يشير به إلى قول ابن دريد في مقصورته:
واللوم للحر مقيم رادع ** والعبد لا يردعه إلا العصا

وقد اشتهر النصف الثاني من هذا البيت حتى جرى مجرى المثل، ولعه كان مثلا سائراً قبل أن ينظمه ابن دريد.
ومنه قول الشيح جمال الدين بن نباتة رحمه الله من توقيع بنظر مدرسة بعد أن قدم أن أهلها رفعوا قصصهم في طلب ذلك الناظر: وكيف لا وهو نعم الناظر والإنسان، وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللسان، وذو العزائم الذي تقيدت في حبه الرتب، ومن وجد الإحسان. يريد البيت المشهور:
ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا

وقد أتى فيه بالاكتفاء، فزاد في كلامه حسناً وطلاوة.
وأعلى منه وأوقع في النفوس قوله بعد ذلك في التوقيع المذكور فاقتضى علو الرأي أن يجاب في طلبه إليهم سؤال القوم، وأن يتصل أمس الإقبال باليوم، وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه، بعد ما مضت عليها من الدهر ملاوه، وهذه المدرسة لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعي: مدارس آيات خلت من تلاوه.
ومن ذلك قول المولى علاء الدين بن غانم في قدمة باسم مظفر الدين غانم، وقد صرع لغلغة، وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه، الحمد لله الذي ظفر المظفر بإصابة الواجب من الطير، ووفر من السعادة حظ من أصاب ووافق الصواب فيمن انتمى إذ تشرف به وتميز على الغير، وخفر من أسراه، إلى من يحمد لديه صبح سراه إذ يصبحه من بشره وبره كل خير. أشار في القرينة الأخيرة إلى المثل السائر من قولهم: عند الصباح يحمد القوم السرى، وقد تقدم أن أول من قال ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه.
وما استعمله أهل الصناعة من أمثال المحدثين نثراً قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله في وصف خطيب من جملة توقيع: ومن إذا قام فريداً عد بألف من فرائد الرجال تنظم، وإذا أقبل في سواد طيلسانه، قيل: جاء السواد الأعظم. فاستعمل المثل السائر في قولهم: السواد الأعظم يريدون الجم الغفير، وهو من أمثال المحدثين، وحسن ذلك لمناسبة لبس الخطيب السواد على ما جرت به العادة، وإن كان خلاف السنة: كما صرح به الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله من أصحابنا الشافعية.
ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم، وهو: وأظهر كل منهما ما كان يخفيه، فكتب وأملى، وباح بما يكنه صدره، والمؤمن لا يكون حبلى. فاستعملت المثل في قولهم: المؤمن لا يكون حبلى وهو من أمثال المحدثين إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وقد تستعمل أمثال المحدثين في الشعر أيضاً فتجلو ويروق موقعها ويستظرف، كما قال القاضي الأرجاني:
تأمل منه تحت الصدغ خالاً ** لتعلم كم خبايا في الزوايا